ظواهر تستوجب الدراسة الجادة
إحدى هذه الظواهر ظاهرة لم ألحظها سوى هذا العام رغم تكرر وجودها أمامي من قبل, تلك الظاهرة هي أن ما لا يقل عن 50% من قائدي السيارات في لبنان من السيدات, صباحاً ومساءً, خارج المدينة وداخلها, في الجبال والوديان. وما يهمني هنا ليس مبدأ القيادة ولكن كون هذه القيادة تتم وهنَّ آمناتٍ مطمئناتٍ لا يتعرض لهن بشر ولا يصيبهن أي أذى. تقضي أغراضها وحاجاتها, تذهب إلى عملها, تُنزّه أطفالها. والزوج في عمله يكدح ويكد ليقيم أود أسرته.
وما يصدق على لبنان يصدق على بلاد كثيرة.
والذي أدّى إلى هذه الملاحظة هذا العام بالذات ربما يرجع إلى كثرة ما قيل وكُتب عندنا عن أحقية المرأة لقيادة السيارة, بين مؤيد ومعارض, بين من يلتمس دليلاً دينياً وبين من يسرد حاجات تُبرر هذه القيادة.
يلحق بهذه الظاهرة التي لاحظناها ظاهرة غدوِّ ورواح المرأة نهاراً وليلاً آمنة مطمئنة, فلا معاكسات ولا شرطة ولا قلة أدب. يشمل ذلك الشوارع والمحال وغيرها, الكل في طريقه يسير: نساء مع نساء, شباب مع شباب, عوائل وأسر وأصدقاء. المستوى الحضاري يحكم كل تصرف, ومعرفة الحدود والضوابط, والعقاب يحيط السلوك غير السوي من كل جانب.
وسرح الفكر في مقارنة بين ما شاهدتُ في مجتمع وما نشاهده في مجتمعنا. وكانت نتيجة المقارنة في غير صالح الأخير بكل وضوح وتأكيد. وما يؤيد ذلك كثير, تعجّ به الصحف وكثير لا يصل إلى الصحف وهو أدهى وأمرّ. والأمثلة والظواهر أكثر من أن يُحيط بها مقال في صحيفة له حيّزُه المقرر. لذا نختار البعض ونترك الباقي للقياس ولمعرفة الناس به.
لاحظنا في كثير مما أثير حول قيادة المرأة للسيارة , عدا السبب الديني الذي ارتآه البعض واستشهد في سبيله بنصوص دينية حمّلها ما لا تطيق, وادعاء البعض بأن المرأة سوف تتعرض لأذى كبير يلحقها, وسوف يُطاردها الشباب والمفسدون فيحدث ما لا تُحمد عقباه. هذا السبب يقرر بكل وضوح أن المجتمع تحكمه (الفلتة الزائدة عن الحد) و(الفوضى) التي لا قرار لها, فلا يعرف الأفراد فيه ضوابط من دين أو تقليد, ولا حدوداً لسلوكهم وتعاملهم مع الآخر خاصة الحرائر من النساء.
وحتى لا نُتّهم بأن اهتمامنا ينصبّ على قيادة المرأة للسيارة, فإننا نُقرر بأن (المعاكسات) وسوء الخلق, وشراسة المعاملة عمّت مظاهر كثيرة في حياتنا, والصحف خير مرجع يُقرر ذلك (ولا نعرف إن كانت هناك دراسات أكاديمية حول هذه الظواهر رصْداً وتفسيراً واقتراح حل وعلاج).
من مظاهر السلوك الشائن والمعيب الذي نعيشه تجمّع شباب عند مدارس البنات. ملاحقة النساء في الأسواق, ملاحقة الشابات في سياراتهن. أذية النساء عند ممارستهن لرياضة المشي. سلوك شائن ومعيب لعرب أثناء تواجدهم خارج بلادهم حتى أصبحوا يُشكّلون سمعة سيئة لبلادهم, وفي بعض البلدان لدينهم كذلك.
كل هذه الظواهر السلوكية غير السوية تستدعي الطرح الصريح والموضوعي والعلمي بغية معرفة الأسباب والأخذ بوسائل العلاج وطرقه, وطرح تساؤلات تستدعي الإجابة عليها بكل صراحة ووضوح وموضوعية, بعيداً عن تشدّد وغلوٍّ دينيٍّ لا مبرر لهما, أو سطوة دينية الدين منها براء. بعض هذه التساؤلات على كل حال:
* هل أصبح الدين عند بعضهم عبادات تُؤدى كيفما اتفق, فلا تترك أثراً حسناً في السلوك والمعاملات?
* هل تحويل النظام التعليمي للمواد الدينية إلى مواد امتحانية تذهب محتوياتها أدراج الريح بعد الخروج من الامتحان?
* يُردد المسلمون -وهذا حق- أن دين الإسلام دين آخرة ودنيا, وأنه يحكم حياة الفرد والجماعة وينظمها. ما الذي أدّى إلى هذا الفصل التعسفي- أو إن شئت فقل الجفوة -بين العبادات والمعاملات?
نحن نقرأ (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). أثر العبادات في المعاملات تملأ الكتاب والسنة, حتى أن عبادات تبطل إذا لم تكن المعاملة أثناءها وبعدها على مستوى يتطلبها الدين? هل هذا مما أدّى إلى أن يفقد الدين الإسلامي مصداقيته عند غير أهله?
* هل المستوى الحضاري الذي تبلغه أمة هو الذي يرجع إليه حسن السلوك وطبيعته, والتصرف السوي, والتعامل الحسن مع الآخر?
* نحن لا تنقصنا الأنظمة ولا القوانين, فهل تفتقر إلى آلية التنفيذ مما جعل ويجعل تلك الأنظمة والقوانين حبيسة الملفات والأرفف, ولا نستبعد لها الضياع والنسيان?
* هل هذا الخلط بين (الاختلاط) و(الخلوة) هو سبب يعود إليه عدم تربية الفرد وتدريبه وتعويده على حياة الجماعة واحترام الغير, فيتهذّب بذلك سلوكه وينضبط تصرفه? إننا نقول (الاختلاط) لا (الخلوة). والفرق بينهما شاسع وكبير, وسامح الله من يخلط بينهما ليُبرر فهماً أو يؤكد توجهاً.
* هل العقاب -على أهميته- هو الوسيلة الوحيدة التي يجب التفكير فيها جزاءً لسوء سلوك وأملاً في تعديل? إن كان هذا هو الاعتقاد, فهل هذا تصرف سليم? وهل أدى إلى تلك النتيجة?
* هل غياب دور المدرسة, والمنزل, والمسجد, والمجتمع, ووسائل الإعلام في التربية الخلقية في عالم متغير له دور في هذه الفلتة والفوضى?
* هل يعود السبب إلى عدم الجدية في الحياة, تعوّد الشباب بسببها الحياة السهلة الناعمة ومعها الاستهتار بالقيم والمبادئ بل قل بالحياة كلها?
* هل هو الفراغ والجِده {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء/16) و{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض}... الآية (الشورى/27).
* هل لغياب البحث العلمي الجاد وتطبيقه أثر في ذلك?
كل هذه الظواهر السلوكية غير السوية تستدعي الطرح الصريح, الموضوعي والمقارن, بغية معرفة الأسباب والأخذ بوسائل العلاج اللازمة والمناسبة, وكفى أقسام العلوم الإنسانية ذات العلاقة -التربية والاجتماع مثلاً- سباتاً!
وفي كل ما سبق نحن لا نُعمم, ولكننا نحاول رصد أمثلة من سلوكيات سيئة, نحسبها ظاهرة للعيان حتى ولو قام بها البعض, ولكنه بعض آذى ويؤذي المجتمع كله.